فصل: (بَابُ الْيَمِينِ فِي الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.بَابُ الْيَمِينِ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ:

(وَمَنْ قَالَ فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ فَعَلَيْهِ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَهْرَاقَ دَمًا) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَاجِبَةٍ وَلَا مَقْصُودَةٍ فِي الْأَصْلِ، مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَلِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا إيجَابَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ زِيَارَةُ الْبَيْتِ مَاشِيًا فَيَلْزَمُهُ مَاشِيًا، وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَرَاقَ دَمًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَنَاسِكِ (وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ الْخُرُوجُ أَوْ الذَّهَابُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْتِزَامَ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ (وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي قولهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ) وَلَوْ قَالَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ.
لَهُمَا أَنَّ الْحَرَمَ شَامِلٌ عَلَى الْبَيْتِ، وَكَذَا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَصَارَ ذِكْرُهُ كَذِكْرِهِ، بِخِلَافِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَنَّهُمَا مُنْفَصِلَانِ عَنْهُ.
وَلَهُ أَنَّ الْتِزَامَ الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ فَامْتَنَعَ أَصْلًا.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ) قَدَّمَهَا بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ فَتَتَرَجَّحُ فِي نَفْسِهَا، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ إنْ تَقَدَّمَ، إلَّا أَنْ يَعْرِضَ مَا يُوجِبُ تَقْدِيمَ غَيْرِهَا مِنْ كَثْرَةِ الْوُقُوعِ الْمُقْتَضِيَةِ لِأَهَمِّيَّةِ التَّقْدِيمِ.
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ وَهُوَ فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ) وَكَذَا عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ أَوْ بَكَّةَ بِالْبَاءِ (فَعَلَيْهِ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَهْرَاقَ دَمًا) وَالتَّقْيِيدُ بِكَوْنِهِ فِي الْكَعْبَةِ مَذْكُورٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِيُفِيدَ أَنَّ وُجُوبَ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَإِلَّا لَغَا لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ الْمَشْيَ إلَّا لِيَصِلَ إلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ اسْتَحَالَ التَّسَبُّبُ لِحُصُولِهِ.
وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ مَدْلُولَ الْمَشْيِ لَيْسَ هُوَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ، بَلْ وَلَا يَسْتَلْزِمُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَمْشِيَ إلَى الْبَيْتِ وَلَا يَفْعَلَ نُسُكًا، إمَّا ابْتِدَاءُ مَعْصِيَةٍ وَإِمَّا بِأَنْ يَقْصِدَ مَكَانًا فِي الْحِلِّ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ لَيْسَ غَيْرُ، فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ أَهْلِهِ، وَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وَالْبَيْتَ بِلَا إحْرَامٍ، وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ وَيُوجِبُ الْمَشْيَ إلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى فَيَلْزَمُهُ إذَا خَرَجَ أَنْ يَعُودَ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ، وَاَللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ هَذَا الْبَيْتَ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ ثُمَّ يَدْخُلَ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَلَا بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سَبَبُ الْإِحْرَامِ صَوْنًا لَهُ عَنْ اللَّغْوِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَازِمًا لَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَقْصِدَ بِسَيْرِهِ مَكَانًا دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ لَيْسَ غَيْرُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَا بِالنَّظَرِ إلَى الْغَالِبِ وَهُوَ أَنَّ الذَّهَابَ إلَى هُنَاكَ يَكُونُ لِقَصْدِ الْإِحْرَامِ لِمَا عُرِفَ مِنْ إلْغَاءِ الْأَلْفَاظِ وَهِيَ مَا إذَا نَذَرَ الذَّهَابَ إلَى مَكَّةَ كَأَنْ قَالَ: عَلَيَّ الذَّهَابُ أَوْ لِلَّهِ عَلَيَّ الذَّهَابُ إلَى مَكَّةَ أَوْ السَّفَرُ إلَيْهَا أَوْ الرُّكُوبُ إلَيْهَا أَوْ الْمَسِيرُ أَوْ الْمُضِيُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مَعَ إمْكَانِ أَنْ يَحْكُمَ بِذَلِكَ فِيهَا صَوْنًا عَنْ اللَّغْوِ، بَلْ لِأَنَّهُ تُعُورِفَ إيجَابُ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ بِهِ فَصَارَ فِيهِ مَجَازًا لُغَوِيًّا وَحَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، مِثْلُ مَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ، وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنْ لَا يَجِبَ بِهَذَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَاجِبَةٍ وَهُوَ الْمَشْيُ وَلَا مَقْصُودَةٍ فِي الْأَصْلِ.
وَلَوْ قِيلَ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ فَإِنَّ الْمَكِّيَّ إذَا قَدِرَ عَلَى الْمَشْيِ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ مَاشِيًا، أُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرْطَ لِلُزُومِ النَّذْرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ بَعْدَ كَوْنِهِ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ حَتَّى يَلْزَمَهُ النَّذْرُ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَالْمَشْيِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَا السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ كَذَلِكَ لِمَنْ لَا يَمْلِكُ مَرْكَبًا وَيَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ الطَّوَافَ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ لَا شَرْطَ لِغَيْرِهِ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ جِنْسِ الْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ.
وَأُورِدَ أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ.
أُجِيبَ بِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الصَّوْمَ وَمِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ، وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ إيجَابَ الْمَشْرُوطِ إيجَابُ الشَّرْطِ، وَلَا خَفَاءَ فِي بُعْدِهِ فَإِنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ فَرْعُ وُجُوبِ الِاعْتِكَافِ بِالنَّذْرِ، وَالْكَلَامُ الْآنَ فِي صِحَّةِ وُجُوبِ الْمَتْبُوعِ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَى لُزُومِهِ بِلُزُومِهِ وَلُزُومُ الشَّرْطِ فَرْعُ لُزُومِ الْمَشْرُوطِ، وَإِنْ اسْتَدَلَّ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ النَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الِاعْتِكَافُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُمْ لَا يَقولونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَلْ يَصْرِفُونَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُمْ وَالشَّافِعِيَّ لَا يُصَحِّحُونَ نَذْرَ الْكَافِرِ.
ثُمَّ قَدْ يُقَالُ تَحَقُّقُ الْإِجْمَاعِ عَلَى لُزُومِ الِاعْتِكَافِ بِالنَّذْرِ يُوجِبُ إهْدَارَ اشْتِرَاطِ وُجُودِ وَاجِبٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَإِذَا تَعَارَفُوهُ لِلْإِيجَابِ صَارَ كَقولهِ: عَلَيَّ زِيَارَةُ الْبَيْتِ مَاشِيًا فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِذَلِكَ، وَلَوْ أَرَادَ بِبَيْتِ اللَّهِ بَعْضَ الْمَسَاجِدِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَكَذَا لَا يَلْزَمُهُ بِقولهِ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ.
وَأُورِدَ أَنَّهُ إذَا كَانَ كَقولهِ: عَلَيَّ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْمَشْيُ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْحَجُّ لَا يَلْزَمُهُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَقَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ عَلَى حِجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ مَاشِيًا لِأَنَّ الْمَشْيَ لَمْ يُهْدَرْ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى الْبَيْتِ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِيَ هَدْيًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَسَنَدُهُ حُجَّةٌ، وَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَال: «لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ» فَمَحْمُولٌ إمَّا عَلَى ذِكْرِ بَعْضِ الْمَرْوِيِّ، وَعَلَى هَذَا اقْتَصَرْنَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ: يَعْنِي أَنَّ مَحَلَّ الْإِشْكَالِ جَوَازُ رُكُوبِهَا وَلَوْ أَهْدَتْ؛ كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّوْمَ بِصِفَةِ التَّتَابُعِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ وَيَتَصَدَّقَ، بَلْ لَوْ فَرَّقَ لَزِمَ اسْتِئْنَافُهُ فَاقْتَصَرَ الرَّاوِي عَلَى ذَلِكَ لِيُفِيدَ دَفْعَ ذَلِكَ، وَعُرِفَ لُزُومُ الْفِدْيَةِ مِنْ الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْجَهْدِ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِه: «وَإِنَّهَا لَا تُطِيقُ ذَلِكَ» ثُمَّ يُعْرَفُ لُزُومُ الْفِدْيَةِ مِنْ الْحَدِيثِ الْآخَرِ وَقَدْ ذَكَرْنَا بَقِيَّتَهُ هُنَاكَ ذَيْلًا طَوِيلًا وَفُرُوعًا جَمَّةً، وَأَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ بَيْتِهِ لَا مِنْ حَيْثُ يُحْرِمُ فِيهِ مِنْ الْمِيقَاتِ: يَعْنِي فَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا لَمْ يُحْرِمْ مِنْهُ وَهَلْ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْهُ أَوْ مِنْ حَيْثُ يُحْرِمُ فِيهِ مِنْ الْمِيقَاتِ، أَمَّا لَوْ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِهِ لَزِمَهُ الْمَشْيُ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أُخْتِ عُقْبَةَ قَال: «وَلْتُهْدِ بَدَنَةً» لَكِنَّهُمْ عَمِلُوا بِإِطْلَاقِ الْهَدْيِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ «عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً إلَّا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ، وَقَالَ: إنَّ مِنْ الْمُثْلَةِ أَنْ يَنْذِرَ الرَّجُلُ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا، فَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَلْيُهْدِ هَدْيًا وَلْيَرْكَبْ» وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، لَكِنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ إذَا كَانَا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ وَاجِبٌ فَتَجِبُ الْبَدَنَةُ، ثُمَّ الْمُصَنِّفُ ذَكَرَ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عَلِيٍّ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ عَلَى الْمَشْيِ قَالَ: يَمْشِي، فَإِنْ عَجَزَ رَكِبَ وَأَهْدَى بَدَنَةً.
وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى الْبَيْتِ قَالَ: يَمْشِي، فَإِذَا أَعْيَا رَكِبَ وَأَهْدَى جَزُورًا.
وَأُخْرِجَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ.
وَأَمَّا وُرُودُ الْبَدَنَةِ فِي خُصُوصِ حَدِيثِ أُخْتِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَأَسْنَدَ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ غَنِيٌّ عَنْ نَذْرِ أُخْتِكَ، لِتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ بَدَنَةً» وَأَمَّا إذَا كَانَ النَّاذِرُ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْأَحَدَ الَّذِي لَزِمَهُ حَجًّا فَإِنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ الْحَرَمِ وَيَخْرُجُ إلَى عَرَفَاتٍ مَاشِيًا إلَى أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ كَغَيْرِهِ، وَإِنْ أَرَادَ إسْقَاطَهُ بِعُمْرَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْحِلِّ فَيُحْرِمَ مِنْهُ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمَشْيُ فِي ذَهَابِهِ إلَى الْحِلِّ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْهُ مُحْرِمًا.
وَالْوَجْهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْحَجِّ مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ بَلْدَتِهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مُحْرِمًا مِنْهَا بَلْ هُوَ ذَاهِبٌ إلَى مَحِلِّ الْإِحْرَامِ لِيُحْرِمَ مِنْهُ: أَعْنِي الْمَوَاقِيتَ فِي الْأَصَحِّ لِمَا قَدَّمْنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ أَنَّ بَغْدَادِيًّا قَالَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَعَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ مَاشِيًا فَلَقِيَهُ بِالْكُوفَةِ فَكَلَّمَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْشِيَ مِنْ بَغْدَادَ.
وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ السَّفَرُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مَعَ إخْوَانِهِ، وَمِثْلُهُ الشَّدُّ وَالْهَرْوَلَةُ وَالسَّعْيُ إلَى مَكَّةَ، وَكَذَا عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ أَوْ بَابِ الْكَعْبَةِ أَوْ مِيزَابِهَا أَوْ أُسْطُوَانَةِ الْبَيْتِ أَوْ الصَّفَا أَوْ الْمَرْوَةِ إلَى عَرَفَاتٍ وَمُزْدَلِفَةٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَقَالَ صَاحِبَاهُ: يَلْزَمُهُ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ.
وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ تُعُورِفَ بَعْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إيجَابُ النُّسُكِ بِهِمَا فَقَالَا بِهِ كَمَا تُعُورِفَ بِالْمَشْيِ إلَى الْكَعْبَةِ وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ، وَإِلَّا فَالْوَجْهُ الَّذِي ذُكِرَ لَهُمَا مُتَضَائِلٌ وَهُوَ أَنَّ الْحَرَمَ وَالْمَسْجِدَ الْحَرَامَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْكَعْبَةِ فَذِكْرُ الْمُشْتَمِلِ ذِكْرٌ لِلْمَشْمُولِ وَهُوَ الْكَعْبَةُ، وَلَوْ صَرَّحَ بِقولهِ لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْكَعْبَةِ لَزِمَهُ، فَكَذَا ذِكْرُ الْمُشْتَمِلِ لِأَنَّ إيجَابَ اللَّفْظِ لِتَعَارُفِ عَيْنِهِ فِيهِ، وَلَيْسَ عَيْنُ الْمَشْيِ إلَى الْحَرَمِ عَيْنِهِ وَهُوَ وَجْهُ أَبِي حَنِيفَةَ.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ، وَقَالَ: حَجَجْتُ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ ضَحَّى الْعَامَ بِالْكُوفَةِ لَمْ يُعْتَقْ عَبْدُهُ)، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُعْتَقُ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى أَمْرٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ التَّضْحِيَةُ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ الْحَجِّ فَيَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ.
وَلَهُمَا أَنَّهَا قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا نَفْيُ الْحَجِّ لَا إثْبَاتُ التَّضْحِيَةِ لِأَنَّهُ لَا مَطَالِبَ لَهَا فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ الْعَامَ.
غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا النَّفْيَ مِمَّا يُحِيطُ عِلْمُ الشَّاهِدِ بِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يُمَيَّزُ بَيْنَ نَفْيٍ وَنَفْيٍ تَيْسِيرًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ فَقَالَ بَعْدَ انْقِضَائِهِ: حَجَجْتُ وَأَقَامَ الْعَبْدُ شَاهِدَيْنِ عَلَى أَنَّهُ ضَحَّى الْعَامَ بِالْكُوفَةِ لَمْ يُعْتَقْ عَبْدُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) وَلَمْ يَذْكُرْ قول أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، قَالَهُ صَاحِبُ الْمُخْتَلِفِ، وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ يُعْتَقُ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى أَمْرٍ مُشَاهَدٍ وَهُوَ التَّضْحِيَةُ) وَكَيْفَ لَا يُقْبَلُ (وَمِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ الْحَجِّ) ذَلِكَ الْعَامَ (فَيَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ) فَيُعْتَقُ (وَلَهُمَا أَنَّهَا قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ) مَعْنًى (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا نَفْيُ الْحَجِّ لَا إثْبَاتُ التَّضْحِيَةِ) فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى التَّضْحِيَةِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ وَهُوَ الْعَبْدُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا يَطْلُبُهُ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يُعَلَّقْ بِهَا، وَمَا لَا مَطَالِبَ لَهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ، وَإِذَا بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى التَّضْحِيَةِ بَقِيَتْ فِي الْحَاصِلِ عَلَى نَفْيِ الْحَجِّ مَقْصُودًا وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ بَاطِلَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مُطْلَقًا بَاطِلَةٌ بَلْ النَّفْيُ إذَا كَانَ مِمَّا يَعْلَمُ وَيُحِيطُ بِهِ الشَّاهِدُ صَحَّتْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَالَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ قول النَّصَارَى وَالرَّجُلُ يَقول وَصَلْتُ بِهِ ذَلِكَ قُبِلَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ وَبَانَتْ امْرَأَتُهُ لِإِحَاطَةِ عِلْمِ الشَّاهِدِ بِهِ.
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقولهِ (غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا نَفْيٌ يُحِيطُ بِهِ عِلْمُ الشَّاهِدِ لَكِنَّهُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ نَفْيٍ وَنَفْيٍ).
فِي عَدَمِ الْقَبُولِ، بِأَنْ يُقَالَ: النَّفْيُ إذَا كَانَ كَذَا صَحَّتْ الشَّهَادَةُ بِهِ وَإِنْ كَانَ كَذَا لَا تَصِحُّ (تَيَسُّرًا) وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ اللَّازِمِ فِي تَمْيِيزِ نَفْيٍ مِنْ نَفْيٍ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ السِّيَرِ فَالْقَبُولُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى السُّكُوتِ الَّذِي هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ وَصَارَ كَشُهُودِ الْإِرْثِ إذَا قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّهُ وَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ حَيْثُ يُعْطِي لَهُ كُلَّ التَّرِكَةِ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى الْإِرْثِ وَالنَّفْيُ فِي ضِمْنِهِ وَالْإِرْثُ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ، فَأَمَّا النَّحْرُ وَإِنْ كَانَ وُجُودِيًّا وَنَفْيُ الْحَجِّ فِي ضِمْنِهِ لَكِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ كَمَا ذُكِرَ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ كَعَدَمِهَا فِي حَقِّهِ فَبَقِيَ النَّفْيُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِهَا، وَأَمَّا مَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْيِ تُقْبَلُ فِي الشُّرُوطِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَشَهِدَا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهَا قُبِلَتْ وَيُقْضَى بِعِتْقِهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الشُّرُوطِ.
فَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّهَا قَامَتْ بِأَمْرٍ ثَابِتٍ مُعَايَنٍ وَهُوَ كَوْنُهُ خَارِجًا فَيَثْبُتُ النَّفْيُ ضِمْنًا وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ كَمَا لَا حَقَّ لَهُ فِي التَّضْحِيَةِ إذْ لَمْ تَكُنْ هِيَ شَرْطَ الْعِتْقِ فَلَمْ تَصِحَّ الشَّهَادَةُ بِهَا، كَذَلِكَ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْخُرُوجِ لِأَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ الشَّرْطُ بَلْ عَدَمُ الدُّخُولِ كَعَدَمِ الْحَجِّ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَلَمَّا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مِمَّا هُوَ وُجُودِيٌّ مُتَضَمِّنٌ لِلْمُدَّعَى بِهِ مِنْ النَّفْيِ الْمَجْعُولِ شَرْطًا قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُدَّعًى بِهِ لِتَضَمُّنِهِ الْمُدَّعَى بِهِ، كَذَلِكَ يَجِبُ قَبُولُ شَهَادَةِ التَّضْحِيَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلنَّفْيِ الْمُدَّعَى بِهِ فَقول مُحَمَّدٍ أَوْجَهُ.

متن الهداية:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ فَنَوَى الصَّوْمَ وَصَامَ سَاعَةً ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ يَوْمِهِ حَنِثَ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ إذْ الصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ يَوْمًا أَوْ صَوْمًا فَصَامَ سَاعَةً ثُمَّ أَفْطَرَ لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّوْمُ التَّامُّ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا وَذَلِكَ بِإِنْهَائِهِ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ، وَالْيَوْمُ صَرِيحٌ فِي تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ بِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ فَنَوَى الصَّوْمَ وَأَمْسَكَ سَاعَةً ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ يَوْمِهِ حَنِثَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ) وَهُوَ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ إذْ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَلَى الْمُفْطِرَاتِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ وَقَدْ وُجِدَ تَمَامُ حَقِيقَتِهِ، وَمَا زَادَ عَلَى أَدْنَى إمْسَاكٍ فِي وَقْتِهِ تَكْرَارٌ لِلشَّرْطِ، وَلِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ إذَا تَمَّتْ حَقِيقَتُهُ يُسَمَّى فَاعِلًا، وَلِذَا أَنْزِلَ إبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَابِحًا حَيْثُ أَمَرَّ السِّكِّينَ فِي مَحَلِّ الذَّبْحِ فَقِيلَ لَه: «قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا» بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ حَقِيقَتُهُ تَتَوَقَّفُ عَلَى أَفْعَالٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالصَّلَاةِ، فَلِذَا قَالَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي أَنَّهُ إذَا قَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ حَنِثَ إذَا قَطَعَ، فَلَوْ قَطَعَ بَعْدَ الرُّكُوعِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوُجُودِ تَمَامُ حَقِيقَتِهَا.
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ يَوْمًا أَوْ صَوْمًا لَمْ يَحْنَثْ بِصَوْمِ سَاعَةٍ) بَلْ بِإِتْمَامِ الْيَوْمِ، أَمَّا فِي: يَوْمًا. فَظَاهِرٌ، وَكَذَا فِي: صَوْمًا. لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا فَلِذَا قُلْنَا: لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ كَامِلٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا إذَا قَالَ: عَلَيَّ صَلَاةٌ تَجِبُ رَكْعَتَانِ عِنْدَنَا لَا يُقَالُ: الْمَصْدَرُ مَذْكُورٌ بِذِكْرِ الْفِعْلِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَلِفِهِ لَا يَصُومُ وَلَا يَصُومُ صَوْمًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ فِي الْأَوَّلِ إلَّا بِيَوْمٍ.
لِأَنَّا نَقول: الثَّابِتُ فِي ضِمْنِ الْفِعْلِ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي غَيْرِ تَحْقِيقِ الْفِعْلِ، بِخِلَافِ الصَّرِيحِ فَإِنَّهُ اخْتِيَارِيٌّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُطْلَقِ فَيُوجِبُ الْكَمَالَ.
وَقَدْ أُورِدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ: لَأَصُومَنَّ هَذَا الْيَوْمَ وَكَانَ بَعْدَ أَنْ أَكَلَ أَوْ بَعْدَ الزَّوَالِ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ لَمْ تُصَلِّ الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَحَاضَتْ مِنْ سَاعَتِهَا أَوْ بَعْدَ مَا صَلَّتْ رَكْعَةً صَحَّتْ الْيَمِينُ وَطَلُقَتْ فِي الْحَالِ مَعَ أَنَّهُ مَقْرُونٌ بِذِكْرِ الْيَوْمِ وَلَا كَمَالَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْيَمِينَ تَعْتَمِدُ التَّصَوُّرَ، وَالصَّوْمُ بَعْدَ الزَّوَالِ وَالْأَكْلُ مُتَصَوَّرٌ كَمَا فِي صُورَةِ النَّاسِي، وَكَذَا الصَّلَاةُ مِنْ الْحَائِضِ لِأَنَّ دُرُورَ الدَّمِ لَا يَمْنَعُ كَمَا فِي الْمُسْتَحَاضَةِ إلَّا أَنَّهَا لَمْ تَشْرَعْ مَعَ دُرُورٍ هُوَ حَيْضٌ فَفَاتَ شَرْطُ أَدَائِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ لِأَنَّ مَحَلَّ الْفِعْلِ وَهُوَ الْمَاءُ غَيْرُ قَائِمٍ أَصْلًا فَلَا يُتَصَوَّرُ بِوَجْهٍ، وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ إنَّمَا تَصْلُحَانِ مُبْتَدَأَتَيْنِ لِأَنَّ كَلَامَنَا كَانَ فِي الْمُطْلَقِ وَهُوَ لَفْظُ: يَوْمًا. وَلَفْظُ: هَذَا الْيَوْمِ. لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ مُعَرَّفٌ وَالْمُطْلَقَاتُ هِيَ النَّكِرَاتُ وَهِيَ أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ وَإِلَّا فَزَيْدٌ وَعَمْرٌو مُطْلَقٌ وَلَا يَقول بِهِ أَحَدٌ.
وَالْمَسْأَلَتَانِ مُشْكِلَتَانِ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ التَّصَوُّرَ شَرْعًا مُنْتَفٍ، وَكَوْنُهُ مُمْكِنًا فِي صُورَةٍ أُخْرَى وَهِيَ صُورَةُ النِّسْيَانِ وَالِاسْتِحَاضَةِ لَا يُفِيدُ، فَإِنَّهُ حَيْثُ كَانَ فِي صُورَةِ الْحَلِفِ مُسْتَحِيلًا شَرْعًا لَمْ يُتَصَوَّرْ الْفِعْلُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ إلَّا عَلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّيْنِ، أَمَّا عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ فَظَاهِرٌ أَنَّهُمَا تَنْعَقِدَانِ ثُمَّ يَحْنَثُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التُّمُرْتَاشِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ فَهُوَ عَلَى الْجَائِزِ لِأَنَّهُ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْفَاسِدِ إلَّا إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ فِي الْمَاضِي، وَظَاهِرُهُ يُشْكِلُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ حَنَّثَهُ بَعْدَ مَا قَالَ ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ يَوْمِهِ لَكِنَّ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ أَصَحُّ لِأَنَّهَا نَصُّ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ سَجَدَ مَعَ ذَلِكَ ثُمَّ قَطَعَ حَنِثَ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ بِالِافْتِتَاحِ اعْتِبَارًا بِالشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَرْكَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَمَا لَمْ يَأْتِ بِجَمِيعِهَا لَا يُسَمَّى صَلَاةً، بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَيَتَكَرَّرُ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي (وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ لِلنَّهْيِ عَنْ الْبُتَيْرَاءِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ ثُمَّ قَطَعَ لَمْ يَحْنَثْ وَالْقِيَاسُ) يَعْنِي عَلَى الصَّوْمِ (أَنْ يَحْنَثَ بِالِافْتِتَاحِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنْ أَفْعَالٍ مُخْتَلِفَةٍ فَمَا لَمْ يَأْتِ بِهَا لَا تُسَمَّى صَلَاةً) يَعْنِي لَمْ يُوجَدْ تَمَامُ حَقِيقَتِهَا وَالْحَقِيقَةُ تَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْجُزْءِ (بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَيَتَكَرَّرُ بِالْجُزْءِ الثَّانِي) وَلِذَا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَاصِلِ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ صَوْمِ سَاعَةٍ مُكَرَّرٌ مِنْ جِنْسِ مَا مَضَى فَصَارَ صَوْمُ سَاعَةٍ كَالصَّلَاةِ رَكْعَةً، يَعْنِي لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهَا تَمَامُ الْحَقِيقَةِ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَإِنْ سَجَدَ مَعَ ذَلِكَ) يَعْنِي الرُّكُوعَ وَمَا قَبْلَهُ (ثُمَّ قَطَعَ حَنِثَ) وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ: حَلَفَ لَا يُصَلِّي يَقَعُ عَلَى الْجَائِزِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَحْنَثُ بِالْفَاسِدِ إلَّا إذَا كَانَ الْيَمِينُ فِي الْمَاضِي: أَيْ حَلَفَ مَا صَلَّيْت وَكَانَ قَدْ صَلَّى فَاسِدَةً لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْمَاضِيَةَ يُرَادُ الْخَبَرُ عَنْهَا لَا التَّقَرُّبُ بِهَا وَيَصِحُّ الْخَبَرُ عَنْ الْفَاسِدَةِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْفَاسِدَةِ أَنْ تَكُونَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَيَكُونَ مَا فِي الذَّخِيرَةِ بَيَانًا لَهُ وَهُوَ قولهُ: لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّيَ فَصَلَّى صَلَاةً فَاسِدَةً بِأَنْ صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مَثَلًا لَا يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَهُوَ مَا بِهِ حُصُولُ الثَّوَابِ وَسُقُوطُ الْفَرْضِ.
قَالَ: وَلَوْ نَوَى الْفَاسِدَةَ صُدِّقَ دِيَانَةً وَقَضَاءً لِأَنَّ الْفَاسِدَ صَلَاةٌ صُورَةً، وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَى صُورَتِهِ مَجَازًا جَائِزٌ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَفِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَعَ هَذَا يَحْنَثُ بِالصَّحِيحَةِ أَيْضًا، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ أَنَّ فِي الصَّحِيحِ مَا فِي الْفَاسِدَةِ وَزِيَادَةً عَلَى شَرْطِ الْحِنْثِ فَلَا يَمْنَعُ الْحِنْثَ، وَلَوْ كَانَ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الْمَاضِي بِأَنْ قَالَ: إنْ كُنْت صَلَّيْت فَهِيَ عَلَى الْجَائِزَةِ وَالْفَاسِدَةِ ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ لَا أُصَلِّي وَلَا أُصَلِّي صَلَاةً حَيْثُ يَحْنَثُ بِرَكْعَةٍ فَقَالَ:
وَفِي صُورَةٍ: حَذْفُ الْمَفْعُولِ الْمَنْفِيِّ فِعْلُ الصَّلَاةِ لَا كَوْنُ الْمَفْعُولِ صَلَاةً، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالرَّكْعَةِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا قَطَعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ انْتَقَضَ فِعْلُ الصَّلَاةِ وَلَكِنْ بَعْدَ صِحَّتِهِ، وَالِانْتِقَاضُ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي حُكْمٍ يَقْبَلُ الِانْتِقَاضَ، وَالْحِنْثُ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَاضَ فَظَهَرَ مِنْ كَلَامِهِ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْفَاسِدَةِ هِيَ الَّتِي لَمْ يُوصَفْ مِنْهَا شَيْءٌ بِوَصْفِ الصِّحَّةِ فِي وَقْتٍ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الشُّرُوعِ غَيْرَ صَحِيحٍ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي الصَّوْمِ وَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ هُنَاكَ أَيْضًا.
وَأُورِدَ أَنَّ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْقَعْدَةُ وَلَيْسَتْ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَحْنَثَ بِهَا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقَعْدَةَ مَوْجُودَةٌ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ السَّجْدَةِ، وَهَذَا أَوَّلًا مَبْنِيٌّ عَلَى تَوَقُّفِ الْحِنْثِ عَلَى الرَّفْعِ مِنْهَا وَفِيهِ خِلَافُ الْمَشَايِخِ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي ذَلِكَ.
وَمَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ.
وَالْأَوْجَهُ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ لِتَمَامِ حَقِيقَةِ السُّجُودِ بِوَضْعِ بَعْضِ الْوَجْهِ عَلَى الْأَرْضِ.
ثُمَّ لَوْ سُلِّمَ فَلَيْسَتْ تِلْكَ الْقَعْدَةُ هِيَ الرُّكْنَ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَرْكَانَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ الْخَمْسَةُ، وَالْقَعْدَةُ رُكْنٌ زَائِدٌ عَلَى مَا تَحَرَّرَ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِلْخَتْمِ فَلَا تُعْتَبَرُ رُكْنًا فِي حَقِّ الْحِنْثِ.
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً لَمْ يَحْنَثْ مَا لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَا الصَّلَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا) عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فِي لَا يَصُومُ صَوْمًا (وَأَقَلُّ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ لِلنَّهْيِ عَنْ الْبُتَيْرَاءِ) نَهْيًا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ لَوْ فُعِلَتْ.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا فِي الذَّخِيرَةِ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ صَلَّيْتَ رَكْعَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ تَكَلَّمَ لَا يُعْتَقُ.
وَلَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عَتَقَ بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى مَا صَلَّى رَكْعَةً لِأَنَّهَا بُتَيْرَاءُ بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، فَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: تَبَيَّنَ بِهَذِهِ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْجَامِعِ قول مُحَمَّدٍ: يَعْنِي وَحْدَهُ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: حَلَفَ لَا يُصَلِّي رَكْعَةً وَصَلَاةُ الرَّكْعَةِ حَقِيقَةً دُونَ مُجَرَّدِ الصُّورَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِضَمِّ أُخْرَى إلَيْهَا.
وَالْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ: حَلَفَ لَا يُصَلِّي وَلَمْ يَقُلْ رَكْعَةً، وَالْبُتَيْرَاءُ تَصْغِيرُ الْبَتْرَاءِ تَأْنِيثُ الْأَبْتَرِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَقْطُوعُ الذَّنَبِ ثُمَّ صَارَ يُقَالُ لِلنَّاقِصِ.
وَفِي الْبَيْعِ يَحْنَثُ بِالْفَاسِدِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَالْفَرْقُ غَيْرُ خَافٍ.
ثُمَّ إذَا حَلَفَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً فَهَلْ يَتَوَقَّفُ حِنْثُهُ عَلَى قُعُودِهِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إنْ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى مُجَرَّدِ الْفِعْلِ وَهُوَ إذَا حَلَفَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً يَحْنَثُ قَبْلَ الْقَعْدَةِ لَمَا ذَكَرْته، وَإِنْ عَقَدَهَا عَلَى الْفَرْضِ كَصَلَاةِ الصُّبْحِ أَوْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ حَتَّى يَقْعُدَ.
فُرُوعٌ:
حَلَفَ لَا يَؤُمُّ أَحَدًا فَصَلَّى فَجَاءَ نَاسٌ وَاقْتَدَوْا بِهِ فَقَالَ نَوَيْت أَنْ لَا أَؤُمَّ أَحَدًا صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً إلَّا إنْ أَشْهَدَ أَنِّي إنَّمَا أُصَلِّي لِنَفْسِي، وَكَذَا لَوْ صَلَّى هَذَا الْحَالِفُ الْجُمُعَةَ بِالنَّاسِ وَنَوَى أَنْ يُصَلِّيَ لِنَفْسِهِ الْجُمُعَةَ جَازَتْ الْجُمُعَةُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الشَّرْطَ فِيهَا الْجَمَاعَةُ وَقَدْ وُجِدَ وَحَنِثَ قَضَاءً لَا دِيَانَةً.
وَيَنْبَغِي إذَا أَمَّهُمْ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَكُونَ كَالْأَوَّلِ إنْ أَشْهَدَ صُدِّقَ فِيهِمَا وَإِلَّا فَفِي الدِّيَانَةِ.
وَلَوْ قَالَ مَا صَلَّيْت الْيَوْمَ صَلَاةً يُرِيدُ فِي جَمَاعَةٍ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهَا نَاقِصَةٌ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ.
وَلَوْ قَالَ مَا صَلَّيْت الْيَوْمَ الظُّهْرَ يُرِيدُ فِي جَمَاعَةٍ، قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تَسَعُهُ النِّيَّةُ فِي هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ قَالَهُ بِمَعْنَى ظُهْرِ مُقِيمٍ وَسِعَتْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي مَا أَخَّرْت صَلَاةً عَنْ وَقْتِهَا وَقَدْ نَامَ فَقَضَاهَا، اخْتَلَفُوا بِنَاءً عَلَى أَنَّ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتُهَا بِالْحَدِيثِ فَيَصِحُّ أَوَّلًا بَلْ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَقْتِ الْأَصْلِيِّ.

.بَابُ الْيَمِينِ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ:

(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ لَبِسْتِ مِنْ غَزْلِكِ فَهُوَ هَدْيٌ فَاشْتَرَى قُطْنًا فَغَزَلَتْهُ وَنَسَجَتْهُ فَلَبِسَهُ فَهُوَ هَدْيٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ حَتَّى تَغْزِلَ مِنْ قُطْنٍ مَلَكَهُ يَوْمَ حَلَفَ) وَمَعْنَى الْهَدْيِ التَّصَدُّقُ بِهِ بِمَكَّةَ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَيْهَا.
لَهُمَا أَنَّ النَّذْرَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْمِلْكِ أَوْ مُضَافًا إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ اللُّبْسَ وَغَزْلَ الْمَرْأَةِ لَيْسَا مِنْ أَسْبَابِ مِلْكِهِ.
وَلَهُ أَنَّ غَزْلَ الْمَرْأَةِ عَادَةً يَكُونُ مِنْ قُطْنِ الزَّوْجِ وَالْمُعْتَادُ هُوَ الْمُرَادُ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِمِلْكِهِ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ إذَا غَزَلَتْ مِنْ قُطْنٍ مَمْلُوكٍ لَهُ وَقْتَ النَّذْرِ لِأَنَّ الْقُطْنَ لَمْ يَصِرْ مَذْكُورًا.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْيَمِينِ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ):
قَدَّمَهُ عَلَى الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ لِأَنَّ اللُّبْسَ أَكْثَرُ وُقُوعًا مِنْهُ لَا بِقَيْدِ خُصُوصِ الْمَلْبُوسِ، أَوْ لِأَنَّ شَرْعِيَّتَهُ أَوْسَعُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ.
وَالْحُلِيُّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ جَمْعُ حَلْيٍ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ كَثُدِيٍّ وَثَدْيٍ.
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ لَبِسْتِ مِنْ غَزْلِكِ) أَيْ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِك أَيْ مَغْزُولِك (فَهُوَ هَدْيٌ) فَغَزَلَتْ مِنْ قُطْنٍ مَمْلُوكٍ لَهُ وَقْتَ الْحَلِفِ فَلَبِسَهُ فَهُوَ هَدْيٌ اتِّفَاقًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ قُطْنٌ أَوْ كَانَ لَكِنْ لَمْ تَغْزِلْ مِنْهُ بَلْ غَزَلَتْ مِنْ قُطْنٍ اشْتَرَاهُ بَعْدَ الْحَلِفِ فَلَبِسَهُ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ هَدْيٌ (وَقَالَا: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهُ حَتَّى تَغْزِلَهُ مِنْ قُطْنِ مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ) أَيْ وَقْتَ الْحَلِفِ (وَمَعْنَى الْهَدْيِ) هُنَا (مَا يُتَصَدَّقُ بِهِ بِمَكَّةَ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَيْهَا) فَإِنْ كَانَ نَذَرَ هَدْيَ شَاةٍ أَوْ بَدَنَةٍ فَإِنَّمَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْعُهْدَةِ ذَبْحُهُ فِي الْحَرَمِ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ هُنَاكَ فَلَا يُجْزِيهِ إهْدَاءُ قِيمَتِهِ.
وَقِيلَ فِي إهْدَاءِ قِيمَةِ الشَّاةِ رِوَايَتَانِ: فَلَوْ سُرِقَ بَعْدَ الذَّبْحِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ نَذَرَ ثَوْبًا جَازَ التَّصَدُّقُ فِي مَكَّةَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ، وَلَوْ نَذَرَ إهْدَاءَ مَا لَا يُنْقَلُ كَإِهْدَاءِ دَارٍ وَنَحْوِهَا فَهُوَ نَذْرٌ بِقِيمَتِهَا (وَجْهُ قولهِمَا أَنَّ النَّذْرَ إنَّمَا يَنْعَقِدُ) فِيمَا هُوَ (فِي الْمِلْكِ) قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ».
(أَوْ مُضَافًا إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ) مِثْلُ إنْ اشْتَرَيْت كَذَا فَهُوَ هَدْيٌ أَوْ فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَإِنَّ اللُّبْسَ الْمَجْعُولَ شَرْطًا لَيْسَ سَبَبًا لَمِلْكِ الْمَلْبُوسِ وَلَا مُتَعَلَّقُهُ الَّذِي هُوَ غَزْلُ الْمَرْأَةِ سَبَبًا لِمِلْكِهِ إيَّاهُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْقُطْنَ، وَلَيْسَ الْغَزْلُ سَبَبًا لِمَلْكِ الْقُطْنِ لِأَنَّ غَزْلَهَا يَكُونُ مِنْ قُطْنِهَا وَيَكُونُ مِنْ قُطْنِهِ، فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ فِي الْمُشْتَرَى مِنْ الْقُطْنِ إذَا غُزِلَ.
(وَلَهُ أَنَّ غَزْلَ الْمَرْأَةِ عَادَةً يَكُونُ مِنْ قُطْنِ الزَّوْجِ) لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْقُطْنَ وَيَجْعَلَهُ فِي الْبَيْتِ وَهِيَ تَغْزِلُهُ فَيَكُونُ الْمَغْزُولُ مَمْلُوكًا لَهُ (وَالْمُعْتَادُ هُوَ الْمُرَادُ) بِالْأَلْفَاظِ، فَالتَّعْلِيقُ بِغَزْلِهَا تَعْلِيقٌ بِسَبَبِ مِلْكِهِ لِلثَّوْبِ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ لَبِسْت ثَوْبًا أَمْلِكُهُ بِسَبَبِ غَزْلِك قُطْنَهُ فَهُوَ هَدْيٌ وَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْدِيرِ مِلْكِ الْقُطْنِ وَلَا إلَى الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِي الْوَاقِعِ لَا يَمْلِكُ الْمَغْزُولَ بِالْغَزْلِ إلَّا إذَا كَانَ الْقُطْنُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَمْلِكَ الْقُطْنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ فِي حَالِ الْحَلِفِ، ثُمَّ اسْتَوْضَحَ عَلَى أَنَّ غَزْلَهَا سَبَبٌ عَادِيٌّ لِمِلْكِهِ الْمَغْزُولَ بِقولهِ (وَلِهَذَا يَحْنَثُ إذَا غَزَلَتْ مِنْ قُطْنٍ مَمْلُوكٍ لَهُ وَقْتَ النَّذْرِ) بِالِاتِّفَاقِ (مَعَ أَنَّ الْقُطْنَ غَيْرُ مَذْكُورٍ) وَمَا ذَاكَ إلَّا لِكَوْنِ ذِكْرِ الْغَزْلِ ذِكْرَ سَبَبِ الْمِلْكِ فِي الْمَغْزُولِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ سَبَبًا كَوْنُهُ كُلَّمَا وَقَعَ ثَبَتَ الْحُكْمُ عَنْهُ، وَكَوْنُ الْغَزْلِ فِي الْعَادَةِ يَكُونُ مِنْ قُطْنٍ مَمْلُوكٍ لَهُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ كُلَّمَا وَقَعَ ثَبَتَ عِنْدَهُ مِلْكُ الزَّوْجِ فِي الْمَغْزُولِ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَسْأَلَةَ التَّسَرِّي حَيْثُ لَا يَحْنَثُ فِيهَا بِالشِّرَاءِ بَعْدَ الْحَلِفِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى التَّسَرِّي لَيْسَتْ إضَافَةً إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يُثْبِتُ عِنْدَ التَّسَرِّي أَثَرًا لَهُ بَلْ هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا بَطَلَ قول مَنْ رَجَّحَ قول زُفَرَ فِي مَسْأَلَةِ التَّسَرِّي هَذَا، وَالْوَاجِبُ فِي دِيَارِنَا أَنْ يُفْتَى بِقولهِمَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَغْزِلُ إلَّا مِنْ كَتَّانِ نَفْسِهَا أَوْ قُطْنِهَا فَلَيْسَ الْغَزْلُ سَبَبًا لِمِلْكِهِ لِلْمَغْزُولِ عَادَةً فَلَا يَسْتَقِيمُ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ.
وَهَذِهِ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِاللُّبْسِ:
حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِهَا فَلَبِسَ فَلَمَّا بَلَغَ الذَّيْلُ السُّرَّةَ تَذَكَّرَ فَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ وَرِجْلَاهُ بَعْدُ فِي اللِّحَافِ حَنِثَ.
حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا لَا يَحْنَثُ بِلُبْسِ الْقَلَنْسُوَةِ وَالْعِمَامَةِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ وَلَمْ يَقُلْ ثَوْبًا حَنِثَ وَالسَّرَاوِيلُ ثَوْبٌ يَحْنَثُ بِهِ، وَلَوْ قَالَ: هَذَا الثَّوْبَ فَاتَّخَذَ مِنْهُ قَلَنْسُوَةً حَنِثَ.
وَلَوْ ائْتَزَرَ أَوْ ارْتَدَى حَنِثَ سَوَاءٌ الْقَمِيصُ وَغَيْرُهُ، بِخِلَافِ لَا أَلْبَسُ قَمِيصًا لَا يَحْنَثُ إذَا ائْتَزَرَ بِهِ أَوْ ارْتَدَى فَيَنْعَقِدُ عَلَى اللُّبْسِ الْمُعْتَادِ، وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ سَرَاوِيلَ فَائْتَزَرَ بِهِ أَوْ تَعَمَّمَ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ قَالَ هَذَا السَّرَاوِيلَ فَائْتَزَرَ بِهِ أَوْ تَعَمَّمَ حَنِثَ، وَلَوْ وَضَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ يُرِيدُ حَمْلَهُ لَا يَحْنَثُ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ الْقَبَاءَ أَوْ قَبَاءً وَلَمْ يُعَيِّنْ فَوَضَعَهُ عَلَى كَتِفِهِ وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ لَا يَحْنَثُ، وَفِي: هَذَا الْقَبَاءِ. يَحْنَثُ لِأَنَّ فِي الْمُنْكَرِ يُعْتَبَرُ اللُّبْسُ الْمُعْتَادُ، وَفِي الْمُعَيَّنِ الْوَصْفِ لَغْوٌ فَلَا يُعْتَبَرُ اللُّبْسُ الْمُعْتَادُ بَلْ مُطْلَقُ اللُّبْسِ.
وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَاخْتَارَ الْإِمَامُ الْوَالِدُ الْحِنْثَ فِي الْمُنْكَرِ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُلْبَسُ أَيْضًا كَذَلِكَ.
وَلَوْ وَضْع الْقَبَاءَ عَلَى اللِّحَافِ وَنَامَ تَحْتَهُ قِيلَ لَا يَحْنَثُ، وَقِيلَ: بَلْ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْقَبَاءَ فَوْقَ الدِّثَارِ حَالَةَ النَّوْمِ يَحْنَثُ، وَالْمُرَادُ بِالدِّثَارِ مَا يُلْبَسُ فَوْقَ الْقَمِيصِ وَهُوَ الشِّعَارُ، وَمِنْهُ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ» وَفِي ثَوْبِ فُلَانٍ فَوَضَعَ قَبَاءَهُ عَلَى كَتِفَيْهِ يَحْنَثُ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ لَابِسٌ لَكِنْ لَبِسَ الرِّدَاءَ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ لَفْظَ الْقَبَاءِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ الْمُخْتَارُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مُلْبَسٌ لَا لَابِسٌ، فَهُوَ كَمَا تَقَدَّمَ إذَا حَلَفَ لَا يُدْخِلُ فَحُمِلَ وَأُدْخِلَ، فَلَوْ انْتَبَهَ فَأَلْقَاهُ كَمَا انْتَبَهَ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ تَرَكَ يَحْنَثُ عَلِمَ أَنَّهُ الثَّوْبُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَوْ لَا، وَكَذَا لَوْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُنْتَبِهٌ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ سَرَاوِيلَ أَوْ خُفًّا فَأَدْخَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ لَا يَحْنَثُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِ فُلَانَةَ لَا يَحْنَثُ بِالزِّيقِ وَالزِّرِّ وَالْعُرْوَةِ، وَلَوْ لَبِسَ مِنْ غَزْلِهَا وَغَزْلِ غَيْرِهَا حَنِثَ.
أَمَّا لَوْ قَالَ: ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ رُقْعَةٌ مِنْ غَزْلِ غَيْرِهَا حَنِثَ، وَكَذَا إنْ كَانَ فِيهِ وَصْلَةٌ مِنْ كُمِّهِ أَوْ دِخْرِيصِهِ أَوْ عَلِمَ مِنْ غَزْلِ غَيْرِهَا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِهَا فَلَبِسَ مَا خِيطَ مِنْهُ أَوْ مَا فِيهِ سِلْكَةٌ مِنْهُ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ لَبِسَ تِكَّةً مِنْ غَزْلِهَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْنَثُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ نَسْجِ فُلَانٍ فَلَبِسَ ثَوْبًا نَسَجَهُ غِلْمَانُهُ وَفُلَانٌ هُوَ الْمُتَقَبِّلُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ يَعْمَلُ بِيَدِهِ لَا يَحْنَثُ وَإِلَّا حَنِثَ.
لَا يَلْبَسُ حَرِيرًا أَوْ إبْرَيْسَمًا لَا يَحْنَثُ إلَّا بِثَوْبٍ كُلِّهِ أَوْ لُحْمَتِهِ مِنْهُ لَا مَا سُدَاهُ أَوْ عَلِمَهُ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ.
لَا يَلْبَسُ هَذَا الْقُطْنَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ انْصَرَفَ إلَى الثَّوْبِ الْمُتَّخَذِ مِنْهُ، فَلَوْ حَشَا بِهِ ثَوْبًا وَهُوَ الْمُضَرَّبُ لَا يَحْنَثُ وَكَذَا لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِ فُلَانَةَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ هُوَ عَلَى الثَّوْبِ، وَإِنْ نَوَى عَيْنَ الْغَزْلِ لَا يَحْنَثُ بِلُبْسِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ يَلْبَسُ الثَّوْبَ لَا الْغَزْلَ وَلَا يَلْبَسُ عَيْنَ الْغَزْلِ.
لَا يَلْبَسُ مِنْ ثِيَابِ فُلَانٍ وَفُلَانٌ يَبِيعُ الثِّيَابَ فَاشْتَرَى مِنْهُ وَلَبِسَ يَحْنَثُ.
لَا يَلْبَسُ كَتَّانًا فَلَبِسَ ثَوْبًا فِيهِ كَتَّانٌ وَغَيْرُهُ حَنِثَ.
لَا يَكْسُو فُلَانًا فَكَسَاهُ قَلَنْسُوَةً أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ جَوْرَبَيْنِ أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ حَنِثَ إلَّا إنْ نَوَى كِسْوَتَهُ بِيَدِهِ، وَلَوْ أَعْطَاهُ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِهَا ثَوْبًا فَلَبِسَهُ لَا يَحْنَثُ.

متن الهداية:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حُلِيًّا فَلَبِسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا حَتَّى أُبِيحَ اسْتِعْمَالُهُ لِلرِّجَالِ وَالتَّخَتُّمُ بِهِ لِقَصْدِ الْخَتْمِ (وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ حَنِثَ) لِأَنَّهُ حُلِيٌّ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ لِلرِّجَالِ.
(وَلَوْ لَبِسَ عِقْدَ لُؤْلُؤٍ غَيْرِ مُرَصَّعٍ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ حُلِيٌّ حَقِيقَةً حَتَّى سُمِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ.
وَلَهُ أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّى بِهِ عُرْفًا إلَّا مُرَصَّعًا، وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ.
وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، وَيُفْتَى بِقولهِمَا لِأَنَّ التَّحَلِّيَ بِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ مُعْتَادٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حُلِيًّا فَلَبِسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ لَمْ يَحْنَثْ) عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ يَحْنَثُ (لَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا) بِدَلِيلِ أَنَّهُ أُبِيحَ لِلرِّجَالِ مَعَ مَنْعِهِمْ مِنْ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُمْ لِقَصْدِ التَّخَتُّمِ لَا لِلزِّينَةِ فَلَمْ يَكُنْ حُلِيًّا كَامِلًا فِي حَقِّهِمْ وَإِنْ كَانَتْ الزِّينَةُ لَازِمَ وُجُودِهِ لَكِنَّهَا لَمْ تُقْصَدْ بِهِ فَكَانَ عَدَمًا خُصُوصًا فِي الْعُرْفِ الَّذِي هُوَ مَبْنَى الْأَيْمَانِ.
قَالَ الْمَشَايِخُ: هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَصُوغًا عَلَى هَيْئَةِ خَاتَمِ النِّسَاءِ بِأَنْ كَانَ لَهُ فَصٌّ، فَإِنْ كَانَ حَنِثَ لِأَنَّهُ لُبْسُ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الزِّينَةُ لَا التَّخَتُّمُ فَكَمُلَ مَعْنَى التَّحَلِّي بِهِ وَصَارَ كَلُبْسِهِ سِوَارًا أَوْ خَلْخَالًا أَوْ قِلَادَةً أَوْ قُرْطًا أَوْ دُمْلُوجًا حَيْثُ يَحْنَثُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَلَوْ مِنْ الْفِضَّةِ.
وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ بِخَاتَمِ الْفِضَّةِ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَلْبَسُهُ النِّسَاءُ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي خَاتَمِ الْفِضَّةِ يَنْفِي كَوْنَهُ حُلِيًّا، وَإِنْ كَانَ زِينَةً (وَلَوْ كَانَ) الْخَاتَمُ (مِنْ ذَهَبٍ حَنِثَ) مُطْلَقًا بِفَصٍّ وَبِلَا فَصٍّ اتِّفَاقًا.
قولهُ: (وَلَوْ لَبِسَ عِقْدَ لُؤْلُؤٍ غَيْرَ مُرَصَّعٍ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يَحْنَثُ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ عِقْدُ زَبَرْجَدٍ أَوْ زُمُرُّدٍ أَوْ يَاقُوتٍ، وَبِقولهِمَا قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ.
وَجْهُ قولهِمَا أَنَّهُ حُلِيٌّ حَقِيقَةً فَإِنَّهُ يَتَزَيَّنُ بِهِ وَسُمِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وَالْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ هُوَ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (وَلَهُ أَنَّهُ لَا يُتَحَلَّى بِهِ) فِي الْعَادَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقولهِ (عُرْفًا إلَّا مُرَصَّعًا) بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ (وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ) لَا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْمُرَصَّعِ فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِهِ.
قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: قِيَاسُ قولهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَلْبَسَ الْغِلْمَانُ وَالرِّجَالُ اللُّؤْلُؤَ (وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ) فِي زَمَانِهِ كَانَ لَا يُتَحَلَّى بِهِ إلَّا مُرَصَّعًا، وَفِي عُرْفِهِمَا تَحَلَّوْا بِالسَّاذَجِ (وَيُفْتَى بِقولهِمَا) لِأَنَّ الْعُرْفَ الْقَائِمَ أَنَّهُ يُتَحَلَّى بِهِ سَاذَجًا كَمَا يُتَحَلَّى بِهِ مُرَصَّعًا.

متن الهداية:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَنَامَ عَلَيْهِ وَفَوْقَهُ قِرَامٌ حَنِثَ) لِأَنَّهُ تَبَعُ الْفِرَاشِ فَيُعَدُّ نَائِمًا عَلَيْهِ (وَإِنْ جَعَلَ فَوْقَهُ فِرَاشًا آخَرَ فَنَامَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ تَبَعًا لَهُ فَقَطَعَ النِّسْبَةَ عَنْ الْأَوَّلِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ) أَيْ فِرَاشٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْفِرَاشِ، وَبِدَلِيلِ قولهِ وَإِنْ جَعَلَ فَوْقَهُ فِرَاشًا آخَرَ فَنَامَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ كَانَ نَكِرَةً بِأَنْ حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ حَنِثَ بِوَضْعِ الْفِرَاشِ عَلَى الْفِرَاشِ لِأَنَّهُ نَامَ عَلَى فِرَاشٍ نَكِرَةٍ، ثُمَّ إذَا نَامَ عَلَيْهِ (وَفَوْقَهُ قِرَامٌ حَنِثَ) لِأَنَّ الْقِرَامَ تَبَعٌ لِلْفِرَاشِ لِأَنَّهُ سَاتِرٌ رَقِيقٌ يُجْعَلُ فَوْقَهُ كَاَلَّتِي تُسَمَّى فِي عُرْفِنَا الْمُلَى: أَيْ الْمِلَاءَةُ الْمَجْعُولَةُ فَوْقَ الطَّرَّاحَةِ، وَإِذَا كَانَ تَبَعًا لَهُ لَمْ يُعْتَبَرْ وَصَارَ كَأَنَّهُ نَامَ عَلَى نَفْسِ الْفِرَاشِ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَ فَوْقَهُ فِرَاشًا آخَرَ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ إذَا نَامَ عَلَى الْأَعْلَى لِأَنَّهُ مِثْلُهُ، وَالشَّيْءُ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِمِثْلِهِ فَتَنْقَطِعُ النِّسْبَةُ إلَى الْأَسْفَلِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يُسَمَّى نَائِمًا عَلَى فِرَاشَيْنِ فَلَمْ تَنْقَطِعْ النِّسْبَةُ وَلَمْ يُصَرِّحْ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ لَيْسَ تَبَعًا لِمِثْلِهِ وَلَا يَضُرُّنَا نَفْيُهُ فِي الْفِرَاشَيْنِ بَلْ كُلُّ أَصْلٍ بِنَفْسِهِ وَيَتَحَقَّقُ الْحِنْثُ بِتَعَارُفِ قولنَا نَامَ عَلَى فِرَاشَيْنِ وَإِنْ كَانَ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْأَعْلَى.

متن الهداية:
(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطٍ أَوْ حَصِيرٍ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ لِبَاسُهُ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ حَائِلًا (وَإِنْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ فَوْقَهُ بِسَاطٌ أَوْ حَصِيرٌ حَنِثَ) لِأَنَّهُ يُعَدُّ جَالِسًا عَلَيْهِ، وَالْجُلُوسُ عَلَى السَّرِيرِ فِي الْعَادَةِ كَذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَ فَوْقَهُ سَرِيرًا آخَرَ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ فَقَطَعَ النِّسْبَةَ عَنْهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطٍ أَوْ حَصِيرٍ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ) عُرْفًا فَاعْتَبَرَ الْعُرْفُ كُلًّا مِنْ الْأَرْضِ وَالْبِسَاطِ وَالْحَصِيرِ أَصْلًا، وَلِهَذَا يُقَالُ: اجْلِسْ عَلَى الْبِسَاطِ لَا تَجْلِسْ عَلَى الْحَصِيرِ، وَتَارَةً اجْلِسْ عَلَى الْحَصِيرِ لَا تَجْلِسْ عَلَى الْأَرْضِ فَجَعَلَ الْجَالِسَ عَلَى أَحَدِهِمَا غَيْرَ جَالِسٍ عَلَى الْأَرْضِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ جَلَسَ عَلَى ذُيُولِهِ حَيْثُ يُعَدُّ جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ، وَيُقَالُ: جَلَسَ فُلَانٌ عَلَى الْأَرْضِ فَيَحْنَثُ، وَسِرُّهُ أَنَّهُ حَيْثُ كَانَ اللِّبَاسُ تَبَعًا لَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ حَائِلًا بَلْ كَأَنَّهُ جَلَسَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْأَرْضِ.
نَعَمْ لَوْ خَلَعَ ثَوْبَهُ فَبَسَطَهُ وَجَلَسَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ لِارْتِفَاعِ التَّبَعِيَّةِ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ فَوْقَهُ بِسَاطٌ أَوْ حَصِيرٌ) أَوْ فِرَاشٌ (حَنِثَ لِأَنَّهُ يُعَدُّ جَالِسًا عَلَيْهِ وَالْجُلُوسُ عَلَى السَّرِيرِ فِي الْعَادَةِ كَذَلِكَ) أَيْ عَلَى مَا يُفْرَشُ عَلَيْهِ، يُقَالُ جَلَسَ الْأَمِيرُ عَلَى السَّرِيرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فَوْقَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُرُشِ (بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَ فَوْقَهُ سَرِيرًا آخَرَ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْآخَرَ الْأَعْلَى (مِثْلُ الْأَوَّلِ) الْأَسْفَلِ فَلَمْ يُجْعَلْ تَابِعًا لَهُ فِي الْعُرْفِ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ.
وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فِي الْفِرَاشِ بِالْعُرْفِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ نَامَ عَلَى فِرَاشَيْنِ وَلَا يُقَالُ جَلَسَ عَلَى سَرِيرَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ، بَلْ يُقَالُ جَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ فَوْقَ سَرِيرٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي هَذَا الدُّكَّانِ وَهَذَا السَّطْحِ إذَا حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَبَسَطَ عَلَيْهِ وَجَلَسَ حَنِثَ.
وَلَوْ بَنَى دُكَّانًا فَوْقَ الدُّكَّانِ أَوْ سَطْحًا عَلَى السَّطْحِ إذَا حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى أَحَدِهِمَا انْقَطَعَتْ النِّسْبَةُ عَنْ الْأَسْفَلِ فَلَا يَحْنَثُ بِالْجُلُوسِ عَلَى الْأَعْلَى، وَلِذَا كُرِهَتْ الصَّلَاةُ عَلَى سَطْحِ الْكَنِيفِ وَالْإِسْطَبْلِ.
وَلَوْ بَنَى عَلَى ذَلِكَ سَطْحًا آخَرَ فَصَلَّى عَلَيْهِ لَا يُكْرَهُ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ.
وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ: حَلَفَ لَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ فَمَشَى عَلَيْهَا بِنَعْلٍ أَوْ خُفٍّ حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى بِسَاطٍ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ مَشَى عَلَى أَحْجَارٍ حَنِثَ لِأَنَّهَا مِنْ الْأَرْضِ.

.(بَابُ الْيَمِينِ فِي الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ):

(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ إنْ ضَرَبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَمَاتَ فَضَرَبَهُ فَهُوَ عَلَى الْحَيَاةِ) لِأَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ، وَالْإِيلَامُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ، وَمَنْ يُعَذَّبُ فِي الْقَبْرِ تُوضَعُ فِيهِ الْحَيَاةُ فِي قول الْعَامَّةِ وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَمِنْهُ الْكِسْوَةُ فِي الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مِنْ الْمَيِّتِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ السَّتْرَ، وَقِيلَ بِالْفَارِسِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى اللُّبْسِ (وَكَذَا الْكَلَامُ وَالدُّخُولُ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ الْإِفْهَامُ وَالْمَوْتُ يُنَافِيهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِ زِيَارَتُهُ وَبَعْدَ الْمَوْتِ يُزَارُ قَبْرُهُ لَا هُوَ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْيَمِينِ فِي الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ):
مِنْ الْغُسْلِ وَالْكِسْوَةِ.
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ: إنْ ضَرَبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَهُوَ عَلَى الْحَيَاةِ) حَتَّى إذَا مَاتَ فَضَرَبَهُ لَا يَحْنَثُ (لِأَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ) أَوْ اسْتِعْمَالِ آلَةِ التَّأْدِيبِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلتَّأْدِيبِ، (وَالْإِيلَامُ) وَالْأَدَبُ (لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ) لِأَنَّهُ لَا يَحِسُّ وَلِذَا كَانَ الْحَقُّ أَنَّ الْمَيِّتَ الْمُعَذَّبَ فِي قَبْرِهِ تُوضَعُ فِيهِ الْحَيَاةُ بِقَدْرِ مَا يَحِسُّ بِالْأَلَمِ.
وَالْبِنْيَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُتَفَرِّقَ الْأَجْزَاءِ بِحَيْثُ لَا تَتَمَيَّزُ الْأَجْزَاءُ بَلْ هِيَ مُخْتَلِطَةٌ بِالتُّرَابِ فَعُذِّبَ جُعِلَتْ الْحَيَاةُ فِي تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا يَأْخُذُهَا الْبَصَرُ، وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ لَقَدِيرٌ.
وَالْخِلَافُ فِيهِ إنْ كَانَ بِنَاءً عَلَى إنْكَارِ عَذَابِ الْقَبْرِ أَمْكَنَ، وَإِلَّا فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْ عَاقِلٍ الْقول بِالْعَذَابِ مَعَ عَدَمِ الْإِحْسَاسِ.
وَقَدْ أُورِدَ عَلَى أَخْذِ الْإِيلَامِ فِي تَعْرِيفِ الضَّرْبِ قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} فَقَدْ بَرَّ بِضَرْبِ الضِّغْثِ وَهِيَ حُزْمَةٌ مِنْ رَيْحَانٍ وَنَحْوِهِ وَلَا إيلَامَ فِيهِ.
وَأُجِيبَ أَوَّلًا بِمَنْعِ عَدَمِ الْأَلَمِ فِي ضَرْبِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَبْضَةٌ مِنْ الشَّجَرِ، وَإِنْ سَلِمَ فَمَخْصُوصٌ بِأَيُّوبَ.
وَدُفِعَ بِأَنَّهُ تَمَسَّك بِهِ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ فِي جَوَازِ الْحِيلَةِ فَلَمْ يَعْتَبِرْهُ.
وَفِي الْكَشَّافِ: هَذِهِ الرُّخْصَةُ بَاقِيَةٌ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْبِرَّ بِضَرْبٍ بِضِغْثٍ بِلَا أَلَمٍ أَصْلًا خُصُوصِيَّةٌ رَحْمَةً لِزَوْجَةِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ بَقَاءُ شَرْعِيَّةِ الْحِيلَةِ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى قُلْنَا: إذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَضَرَبَهُ بِهَا مَرَّةً لَا يَحْنَثُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُصِيبَ بَدَنَهُ كُلُّ سَوْطٍ مِنْهَا، وَذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَطْرَافِهَا قَائِمَةً أَوْ بِأَعْرَاضِهَا مَبْسُوطَةً، وَالْإِيلَامُ شَرْطٌ فِيهِ، أَمَّا عَدَمُهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا.
وَلَوْ ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ لَهُ شُعْبَتَانِ خَمْسِينَ مَرَّةً يَبَرُّ، وَلَوْ ضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَخَفَّفَ بِحَيْثُ لَمْ يَتَأَلَّمْ بِهِ لَا يَبَرُّ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ صُورَةً لَا مَعْنًى.
وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْنَاهُ، فَلَا يَبَرُّ إلَّا بِأَنْ يَتَأَلَّمَ، حَتَّى إنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ شَرَطَ فِيمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ رُءُوسِ الْأَعْوَادِ وَضَرَبَ بِهَا كَوْنَ كُلِّ عُودٍ بِحَالِ لَوْ ضَرَبَ مُنْفَرِدًا بِهِ لَأَوْجَعَ الْمَضْرُوبَ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا بِالْحِنْثِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْفَتْوَى عَلَى قول عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْأَلَمِ.
فُرُوعٌ:
قَالَ: لَأَضْرِبَنَّكَ حَتَّى أَقْتُلَك هُوَ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ، وَمِثْلُهُ حَتَّى أَتْرُكَك لَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ، وَحَتَّى تَسْتَغِيثَ فَهُوَ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ، وَكَذَا حَتَّى تَبُولَ أَوْ حَتَّى تَبْرُكَ.
وَعِنْدِي أَيْضًا عَلَى الضَّرْبِ الشَّدِيدِ لَأَضْرِبَنَّكَ بِالسَّيْفِ حَتَّى تَمُوتَ، وَلَأَضْرِبَنَّ وَلَدَك عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى يَنْشَقَّ نِصْفَيْنِ، فَهُوَ عَلَى أَنْ يَضْرِبَ بِهِ الْأَرْضَ وَيَرْكُلَهُ فَقَطْ، وَخِلَافُ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ بِالسَّيْفِ حَنِثَ بِضَرْبِهِ بِغِلَافِهِ وَهُوَ فِيهِ، وَكَذَا بِالسَّوْطِ فَلَفَّهُ بِخِرْقَةٍ وَضَرَبَهُ حَنِثَ.
حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ بِنَصْلِ هَذَا السِّكِّينِ أَوْ بِزُجِّ هَذَا الرُّمْحِ فَنَزَعَهُ وَرَكَّبَ غَيْرَهُ وَضَرَبَهُ بِهِ لَا يَحْنَثُ وَلَوْ قَالَ: إنْ لَقِيتُك فَلَمْ أَضْرِبْك فَعَبْدِي حُرٌّ فَرَآهُ عَلَى سَطْحٍ أَوْ مِنْ بَعِيدٍ بِحَيْثُ لَا تَصِلُ إلَيْهِ يَدُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ضَرْبِهِ لَا يَحْنَثُ، قَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فُلَانٍ قَدْرُ مِيلٍ أَوْ أَكْثَرُ فَلَمْ يَلْقَهُ.
حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَضَرَبَ أَمَتَهُ: يَعْنِي فَأَصَابَ ضَرْبُهُ الْمَرْأَةَ بِغَيْرِ قَصْدٍ حَنِثَ.
حَلَفَ لَا أُعَذِّبُهُ فَحَبَسَهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْحَبْسَ تَعْذِيبٌ قَاصِرٌ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُطْلَقِ.
قولهُ: (وَكَذَا الْكِسْوَةُ) إذَا حَلَفَ لَيَكْسُوَنَّهُ فَأَلْقَى عَلَيْهِ ثَوْبًا بَعْدَ مَوْتِهِ يَحْنَثُ وَتَقْتَصِرُ الْكِسْوَةُ عَلَى الْحَيَاةِ لِاعْتِبَارِ التَّمْلِيكِ فِي مَفْهُومِهَا، وَلِذَا لَوْ قَالَ: كَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ كَانَ هِبَةً، وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ إحْدَى خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِيهَا فِيمَا سِوَى الْإِطْعَامِ التَّمْلِيكُ، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ أَهْلًا لَلتَّمَلُّكِ لِيَصِحَّ التَّمْلِيكُ.
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: لَوْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ بِالْفَارِسِيَّةِ يُرَادُ بِهِ اللُّبْسُ دُونَ التَّمْلِيكِ.
قولهُ: (إلَّا أَنْ يُنْوَى بِهِ السَّتْرَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قولهِ فَهُوَ عَلَى الْحَيَاةِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ التَّشْبِيهُ فِي قولهِ: وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ لِأَنَّ السُّتْرَةَ تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ كَمَا فِي الْحَيِّ فَتَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عَلَى حَالَتَيْ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، وَذِكْرُ ضَمِيرٍ بِهِ وَهُوَ الْكِسْوَةُ عَلَى تَأْوِيلِ قولهِ: كَسَوْتُك، وَقِيلَ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِكْسَاءِ وَلَا وُجُودَ لَهُ فِي اللُّغَةِ.
قولهُ: (وَكَذَا الْكَلَامُ) يَعْنِي إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْحَيَاةِ، فَلَوْ كَلَّمَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْإِفْهَامُ وَالْمَوْتُ يُنَافِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ فَلَا يَفْهَمُ.
وَأُورِدَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَهْلِ الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَتُكَلِّمُ الْمَوْتَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِي مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقول مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ مِنْهُمْ» وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ: يَعْنِي مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَإِلَّا فَهُوَ فِي الصَّحِيحِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَدَّتْهُ بِقولهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}، {إنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} وَبِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَهُ لَهُ عَلَى وَجْهِ الْمَوْعِظَةِ لِلْأَحْيَاءِ لَا لِإِفْهَامِ الْمَوْتَى، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، أَمَّا نِسَاؤُكُمْ فَنُكِحَتْ وَأَمَّا أَمْوَالُكُمْ فَقُسِمَتْ، وَأَمَّا دُورُكُمْ فَقَدْ سُكِنَتْ، فَهَذَا خَبَرُكُمْ عِنْدَنَا فَمَا خَبَرُنَا عِنْدَكُمْ» وَبِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِأُولَئِكَ تَضْعِيفًا لِلْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ، لَكِنْ بَقِيَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إنَّ الْمَيِّتَ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إذَا انْصَرَفُوا» وَلْيُنْظَرْ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ مِنْ هَذَا الشَّرْحِ.
قولهُ: (وَالدُّخُولُ) يَعْنِي إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ تَقَيَّدَ بِالْحَيَاةِ، فَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ مَيِّتًا لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِ زِيَارَتُهُ أَوْ خِدْمَتُهُ حَتَّى لَا يُقَالَ دَخَلَ عَلَى حَائِطٍ وَلَا عَلَى دَابَّةٍ، وَالزِّيَارَةُ لِلْمَيِّتِ لَيْسَتْ حَقِيقَةً بَلْ إنَّمَا الْمَزُورُ قَبْرُهُ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا» وَلَمْ يَقُلْ عَنْ زِيَارَةِ الْمَوْتَى.

متن الهداية:
(وَلَوْ قَالَ: إنْ غَسَّلْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَغَسَّلَهُ بَعْدَ مَا مَاتَ يَحْنَثُ) لِأَنَّ الْغُسْلَ هُوَ الْإِسَالَةُ وَمَعْنَاهُ التَّطْهِيرُ وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ: إنْ غَسَّلْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ انْعَقَدَ عَلَى الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ لِأَنَّ الْغُسْلَ الْإِسَالَةُ) وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ بِهِ التَّطْهِيرُ أَوْ إزَالَةُ الْوَسَخِ وَالْكُلُّ يَتَحَقَّقُ فِي حَالَةِ الْمَوْتِ كَالْحَيَاةِ.
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فِي الْأَصْلِ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يُلِذُّ وَيُؤْلِمُ وَيَغُمُّ وَيَسُرُّ يَقَعُ عَلَى الْحَيَاةِ دُونَ الْمَمَاتِ كَالضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَالْجِمَاعِ وَالْكِسْوَةِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِ.اهـ.
وَمِثْلُهُ التَّقْبِيلُ إذَا حَلَفَ لَا يُقَبِّلُهَا فَقَبَّلَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَحْنَثُ.
وَتَقْبِيلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ مَا أُدْرِجَ فِي الْكَفَنِ مَحْمُولٌ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ الشَّفَقَةِ أَوْ التَّعْظِيمِ.
وَقِيلَ إنْ عَقَدَ عَلَى تَقْبِيلِ مُلْتَحٍ يَحْنَثُ أَوْ عَلَى امْرَأَةٍ لَا يَحْنَثُ وَهُوَ عَلَى الْوَجْهِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُغَسِّلُ فُلَانًا أَوْ لَا يَحْمِلُهُ أَوْ لَا يَمَسُّهُ أَوْ لَا يُلْبِسُهُ فَهُوَ عَلَى الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَمَدَّ شَعْرَهَا أَوْ خَنَقَهَا أَوْ عَضَّهَا حَنِثَ) لِأَنَّهُ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْإِيلَامُ، (وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ فِي حَالِ الْمُلَاعَبَةِ) لِأَنَّهُ يُسَمَّى مُمَازَحَةً لَا ضَرْبًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَمَدَّ شَعْرَهَا أَوْ خَنَقَهَا أَوْ عَضَّهَا حَنِثَ) وَكَذَا لَوْ وَجَأَهَا أَوْ قَرَصَهَا، وَعَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَعَارَفُ ضَرْبًا.
وَأُجِيبَ بِمَا عَلَّلَ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ يَتَّصِلُ بِهِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كَذَلِكَ.
وَفِي الْمُنْتَقَى: حَلَفَ لَا يَضْرِبُ فُلَانًا فَنَفَضَ ثَوْبَهُ فَأَصَابَ وَجْهَهُ أَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ أَوْ نُشَّابَةٍ فَأَصَابَهُ لَا يَحْنَثُ.
وَاسْتَشْكَلَ يَمِينُ الضَّرْبِ بِأَنَّهَا إنْ تَعَلَّقَتْ بِصُورَةِ الضَّرْبِ عُرْفًا فَهُوَ إيقَاعُ آلَةِ التَّأْدِيبِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَحْنَثَ بِالْخَنْقِ وَمَدِّ الشَّعْرِ وَالْعَضِّ لِأَنَّهُ لَا يُتَعَارَفُ ضَرْبًا أَوْ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ الْإِيلَامُ فَيَجِبُ أَنْ يَحْنَثَ بِالرَّمْيِ بِالْحَجَرِ أَوْ بِهِمَا فَيَحْنَثُ بِالضَّرْبِ مَعَ الْإِيلَامِ مُمَازَحَةً لَكِنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَهُوَ إشْكَالٌ وَارِدٌ.
وَمَا أُجِيبَ بِهِ مِنْ أَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ حُصُولُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ الضَّرْبُ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا.
مِثَالُهُ حَلَفَ لَا يَبِيعُ كَذَا بِعَشَرَةٍ فَبَاعَهُ بِتِسْعَةٍ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ عُرْفًا لَكِنْ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ لَفْظًا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ لَا يَبِيعَ بِعَشَرَةٍ أَوْ بِأَقَلَّ بَلْ بِأَكْثَرَ.
وَلَوْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ لَا يَحْنَثُ أَيْضًا لِأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ لَفْظًا لِأَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ بِأَحَدَ عَشَرَ فَقَدْ بَاعَهُ بِعَشَرَةٍ أَيْضًا لَكِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عُرْفًا فَلَا يَحْنَثُ غَيْرُ دَافِعٍ بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ.
ثُمَّ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ: هَذَا يَعْنِي الْحِنْثَ إذَا كَانَ فِي الْغَضَبِ، أَمَّا إذَا فَعَلَ فِي الْمُمَازَحَةِ فَلَا يَحْنَثُ، وَلَوْ أَدْمَاهَا لَكِنْ لَا عَلَى قَصْدِ الْإِدْمَاءِ بَلْ وَقَعَ الْخَطَأُ فِي الْمُمَازَحَةِ بِالْيَدِ.
وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا إذَا كَانَتْ بِالْعَرَبِيَّةِ، أَمَّا إذَا كَانَتْ بِالْفَارِسِيَّةِ لَا يَحْنَثُ بِمَدِّ الشَّعْرِ وَالْخَنْقِ وَالْعَضِّ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الْمَذْهَبِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَالَ: إنْ لَمْ أَقْتُلْ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَفُلَانٌ مَيِّتٌ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ حَنِثَ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى حَيَاةٍ يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِيهِ وَهُوَ مُتَصَوَّرٌ فَيَنْعَقِدُ ثُمَّ يَحْنَثُ لِلْعَجْزِ الْعَادِيِّ (فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى حَيَاةٍ كَانَتْ فِيهِ وَلَا تُتَصَوَّرُ فَيَصِيرُ قِيَاسُ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَلَيْسَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلُ الْعِلْمِ هُوَ الصَّحِيحَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ: إنْ لَمْ أَقْتُلْ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَفُلَانٌ مَيِّتٌ وَالْحَالِفُ عَالِمٌ بِمَوْتِهِ حَنِثَ) لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ بِمَوْتِهِ قَبْلَ حَلِفِهِ وَالْقَتْلُ إزَالَةُ الْحَيَاةِ بِسَبَبٍ عَادِيٍّ مَخْصُوصٍ لَزِمَ أَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى إزَالَةِ حَيَاةِ يُحْدِثُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ وَذَلِكَ مُتَصَوَّرٌ فَيَنْعَقِدُ بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ لِلْعَجْزِ الْحَالِي الْمُسْتَمِرِّ عَادَةً (وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ لَا مَحَالَةَ عَلَى إزَالَةِ الْحَيَاةِ الْقَائِمَةِ فِيهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ إزَالَةُ الْقَائِمَةِ وَلَا حَيَاةَ قَائِمَةٌ (فَكَانَ قِيَاسُ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ عَلَى الِاخْتِلَافِ) السَّابِقِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَهُمَا، فَعِنْدَهُ يَنْعَقِدُ وَيَحْنَثُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَا حِنْثَ إذْ لَا انْعِقَادَ.
قولهُ: (وَلَيْسَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ) أَيْ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ (تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ) بَلْ الْحُكْمُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّ فِيهِ مَاءً وَقْتَ الْحَلِفِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ.
قولهُ: (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ حَيْثُ قَالَ فِيهِ وَلَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْكُوزَ لَا مَاءَ فِيهِ فَحَلَفَ فَقَالَ: إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ أُخْرَى لَا يَحْنَثُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَهُوَ قول زُفَرَ.
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنْ لَا مَاءَ فِي هَذَا الْكُوزِ فَحَلَفَ يَنْبَغِي أَنْ تَنْعَقِدَ يَمِينُهُ عِنْدَهُمَا عَلَى مَاءٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكُوزِ وَهُوَ مُتَصَوَّرٌ ثُمَّ الْعَجْزُ الْحَالِيُّ الْمُسْتَمِرُّ يُوجِبُ حِنْثَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فِي الْكُوزِ مَاءً؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ انْعَقَدَتْ عَلَى مَاءٍ فِي الْكُوزِ، وَلَوْ أَوْجَدَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مَاءً كَانَ غَيْرَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ شُرْبُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ.